ما فتأت فرضية الجدار الفولاذي الذي تعزم الحكومة المصرية إقامته على طول حدودها الشرقية مع قطاع غزة، أن تظل حبيسة عالم الدعاية الإعلامية، معلقة بين سماء الافتراض و أرضية الواقع، حتى أتت تصريحات نائب وزيرة الخارجية الأمريكية، جيفري فيلتمان، اعرف الناس بسياسة الحكومات العربية المعتدلة، لتنهي ذاك السجال، على حقيقة اتخاذ الحكومة المصرية قرارا سياديا ببناء جدار فولاذي على عمق 20 مترا تحت الأرض، كصيغة أمنية جديدة في معادلة الأمن القومي لمصر المحروسة، في مواجهة الوضع القائم على حدودها في غزة !
و إن كانت الحكومة المصرية إلى حد الآن لم تعلق على هذه التصريحات، التي سبقتها تأكيدات الصحف الصهيونية-صحيفة هآرتس- و تحذيرات "مسؤولي" الشرعية الدولية-المفوضة العامة للأونوروا-، لكنه من المتوقع أن أي تصريح حكومي مصري سيتلي تصريح مسؤولي واشنطن، لا يمكن أن يحيد عن مشيئة مسؤولي الأخيرة، خاصة و أنهم القيمون على الأعباء المادية لهذا المشروع، كما أجمعت عليه المصادر الرئيسة الثلاث للخبر.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون، أو تناساه أكثر العارفين، أن هذا القرار المصري ليس وليدة الفترة الراهنة، و لا متغيرا جديدا استجد في العدوان الأخير على غزة، و لا حتى كرد فعل مصري على نشاطات بعض من اعتبرتهم أغيار حاولوا زعزعة الأمن المصري بدعوى دعم المقاومة في قطاع غزة، و إنما هو إملاء من كهف أفكار مسؤولي الإدارة الأمريكية السابقة، ومن تركة أفكار المحافظين الجدد في أواخر أيامهم في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن، تحت طائلة سحب المساعدات الأمريكية عن الحكومة المصرية.
هذا ما استقرء من أرشيف مجلة ويكلي ستاندارد الأمريكية the weekly standard، في عددها الحادي و الثلاثين، في 28/04/2008، في مقالة للباحث اليهودي الأمريكي ديفيد شينكر David Schenker، مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، تحت عنوان: مصر تبني جدار على حدود غزة و تغير موقفها إزاء الجدار الإسرائيلي.2 حيث تحدث حينها عن مسار التغير في المواقف المصرية إزاء جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، معتبرا ذلك في سياق ضمني، يتماشي و المشاريع الأمنية المصرية المزمع اتخاذها مستقبلا، في مواجهة الوضع القائم في غزة، و التي لا تخفي احتمال البدء في تنفيذ سياسة الجدران الأمنية على الطريقة الإسرائيلية.
يقول شينكر: في العام 2003 كان موقف الحكومة المصرية واضحا تجاه جدار الفصل الإسرائيلي، على لسان وزير خارجيتها أحمد ماهر: "إسرائيل تتحدى الشرعية الدولية و الرأي العام العالمي في استمرارها ببناء جدار العار في الضفة الغربية". لكن ما لبت أن حل التاريخ محل الجغرافيا، بتغير المواقف المصرية إزاء سياسة الجدران الأمنية، خاصة بعد الوضع السياسي الجديد في قطاع غزة، و بعد أن وصل صبر الإدارة الأمريكية إلى حده الأخير، إزاء عمليات تهريب الأسلحة و المؤن الغذائية عبر الأنفاق الحدودية تحت معبر رفح، إلى الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة، و خاصة بعد أن أدرجت سياسية تجميد حركة التهريب عبر الأنفاق المصرية، كشرط للكونغرس الأمريكي أثناء مناقشته لميزانية 2008، لدعم الولايات المتحدة للتدابير الأمنية المصرية بما يقارب 100 مليون دولار. و هو ما دفع بوزير الخارجية المصرية، أحمد أبو الغيط في آذار/مارس إلى الانقلاب على المواقف المصرية السابقة، إزاء الشرعية الدولية و الرأي العام العالمي، بقوله : "من يريد إقامة سياج امني في بلده هو حر في أن يفعل ذلك".3
الإشكالية الآن لم تعد تقف عند استجلاء حقيقة المجهود الأمني المصري على الحدود مع قطاع غزة، خاصة بعد التصريحات الغربية الدامغة سياسيا في تأكيدها على المشروع المصري "الفولاذي"، و لكن عقدة الموضوع الآن عند أي باحث، تنطلق من محاولة تفسير هذا السلوك الأمني المصري، الجديد عربيا و القديم غربيا.
إن المستقرئ لتاريخية سياسة الجدران الأمنية في تاريخنا المعاصر على الأقل، سوف يجد أن وراء كل جدار أمني، هاجس خوف من الآخر. هذا ما أكد عليه تيري باكوا، الفيلسوف العمراني في مقالته، "جدران الخوف"4، حين حاول أن يعطي تفسيرا منطقيا لسياسة الجدران الأمنية، معتبرا إياها درجة نفسية متقدمة من الخوف و الرعب، و هي لا تعني شيئا غير الانطواء و الرغبة في فك الارتباط مع الآخر.
و بالتالي سياسة الجدار الأمني المصرية تعني قبل كل شيء الخوف و الانطواء، لسان حالها يقول: أقفل على نفسي كي لا أتعرّض للآخر- حكومة حماس- الذي لا أفهمه ولا أريد الالتقاء به. لكن رغبتا في إبتضاع الشرعية خارجيا و استهلاكها داخليا ، قد ادعوه إلى أرضي، لينصاع إلى أمر ليس أمري، و لكن و إن استعصى الحال، فعصا الجدار قائمة و الجزرة السياسية آتية.
الحقيقة هي أن الحكومة المصرية تخاف من أمرين أساسين:
- الأمر الأول خوفها من فقدان دورها الإقليمي، خاصة بعد أن وجدت الحكومة المصرية بان القضية الفلسطينية كآخر ورقة في جعبة سياساتها الإقليمية، تسري في غير مسار مصلحتها القومية، إن لم نقل أنها الشعرة التي لا تزال قائمة بين مصر و دورها الإقليمي، و التي لم تعد الحكومة المصرية قادرا على التعامل معها بمرونة. لذلك تريد الحكومة من وراء هذا الجدار ان تجعله بمثاية العصا، و أمر اجتيازها بمثابة الجزرة التي سيلوح بها النظام المصري في مواجهة الشعب الفلسطيني في غزة و من ورائه حكومة حماس لإجبارهم على التنازل ، و الرضوخ للإملاءات الغربية المجحفة، كجرعة تنفس جديدة للسياسة المصرية إقليميا التي بدت في السنوات الأخيرة في انحسار متزايد.
- الأمر الثاني خوفها من مد الإسلام السياسي، فالجدار الأمني المصري ما هو إلا تعبير صادق عن درجة الخوف التي و صل إليها النظام المصري من الوضع السياسي القائم في غزة، خاصة بعد المعادلة السياسية التي ارتسمت في المنطقة منذ سنة 2006، مفاد صيغتها أن نموذج حماس في قطاع غزة شكل و لا يزال ذاك الهرمون المنشط لدور الإسلاميين و حضورهم السياسي داخل المجتمع المصري، و أن استمرار الوضع قائما، من شانه أن يغير الديمغرافية السياسية المصرية، بالشكل الذي لا يخدم مشروعية النظام داخليا و شرعيته خارجيا.
من جدار السلام في برلين غربيا، مرورا بجدار الضفة الغربية صهيونيا، وصولا إلى جدار الوهن على الحدود المصرية عربيا، مهما اختلفت الجغرافيا، و فحقيقة التاريخ واحدة، وهي أن الجدران الأمنية لا تحل مشاكل الدولية بل تزيدها تعقيدا و تأخر أمر حلها، فالجدار يخلق قوّة وهميّة، على أساس أن هناك حرية مفقودة و حقوق مصادرة، بل يدعوا، كما حدث في برلين سنة 1989 أو في معبر رفح سنة 2008، إلى الذهاب إلى المغامرة : اخترقوا الجدار لا تصنعوا العار.
إن المطلوب من الفرقاء الفلسطينيين، و خاصة في حركة حماس بعد التصريحات الأخيرة لرئيس المخابرات المصرية، أن توقف تعاطيها السياسي مع النظام المصري، و تبحث لها عن بديل، تتجاوز فيه قهر الجغرافيا، كما كانت مثالا يحتذى به في الصبر على قهر التاريخ بطوله منذ سنة 1948، إن كانت تؤمن بالفعل بأن السياسية هي فن الممكن !، و تحيل قضية المصالحة الوطنية على وسطاء إقليميين آخرين، كتركيا على سبيل المثال، بدافع مستجدين أساسين: الأول لان النظام المصري لم يعد بالدليل المادي طرفا محايدا في صفقة المصالحة التي يعرضها، و الدافع الثاني، أهمية الدور التركي المتعاظم إقليميا، الذي لا تزال واشنطن و من ورائها تل أبيب، تستجدي شراكته و خدماته. فمن الأجدر إذن اللجوء إلى ركن أشد من الركن المصري، الذي دق بفعل هذا القرار، آخر مسمار في نعش دوره الإقليمي.